لو كان للثقافة أن “تنتفع” من فوز كاتبة القصة القصيرة الكندية “أليس مونرو” بجائزة نوبل في الأدب للعام الحالي، فجدير بالثقافة العربية أن تكون هي هذه الثقافة المنتفعة. ذلك أن إلقاء نظرة الفضول المفهومة على الكاتبة وأعمالها ينبغي أن يكون فرصة لنا لإعادة النظر في نوع من القصة القصيرة غفلنا عنه طويلا حتى لم يعد ـ فيما أتصور ـ جزءا مما يشير إليه مصطلح القصة القصيرة عندنا.
لقد قلت على سبيل المزاح في يوم فوز مونرو بالجائزة إنه مع كل قصة قصيرة تترجم لها إلى العربية سنجد من يقول “ها هي الست تكتب روايات! لماذا إذن يقولون إنها لم تكتب إلا قصار القصص؟”. ولا أحسبني غاليت في المزاح ومن بين قصص مونرو المتاحة على الإنترنت ما يتجاوز عدد الواحدة منها الثلاثة عشر ألف كلمة، وهو رقم إن لم يتجاوز حجم بعض “الروايات” العربية، فهو يقترب منه كثيرا، لا سيما روايات السنوات الأخيرة.
لقد ارتاحت الذائقة العربية إلى لون من القصة القصيرة كتبه ـ وإن لم يقصر كتابته عليه ـ الروسي “أنطون تشيخوف” وسوَّده “يوسف إدريس” في كثير من كتبه، واتبعته فيه أغلبية كتاب القصة القصيرة العرب. باتت القصة القصيرة العربية هي ذلك العمل السردي الذي لا يتجاوز مئات الكلمات، ويعنى أكثر ما يعنى بمشهد واحد. باتت “موت موظف” بصفحاتها الأربع تقريبا في ترجمة د. أبو بكر يوسف هي نموذجنا السائد، وليس “السيدة والكلب” ـ لتشيخوف أيضا ـ التي تتجاوز في بعض ترجماتها إلى الإنجليزية الستة آلاف كلمة.
والحق أنه لا غضاضة في أن تختار ثقافة، أو حتى تميل بلا سبب واضح، إلى شكل معين من أشكال الكتابة تؤثره على غيره. لكن المشكلة أن يتم التكريس لهذا اللون بوصفه “القصة القصيرة”، برغم أن آخرين حتى في ثقافتنا نفسها كتبوا قصصا طويلة، أتاحت لهم الحديث عن تواريخ شخصياتهم، وتأمل مصائرهم، وتقديم حكاية أقدر على البقاء مع القارئ، ولكن تم تهميش هذه الكتابة بأحكام قاطعة من قبيل أن: نجيب محفوظ ليس كاتب قصة قصيرة، اقرأوا له رواياته، أما القصص القصيرة فلا، لماذا أصلا وهناك يوسف إدريس؟
إنها كراهية التعدد، ربما. أو هو الاستسهال، والركون إلى النمط إن وجد، فإن لم يوجد، فالتنميط هو الحل.
ولكن هذه القصة القصيرة التي اخترناها توشك أن تكون هي المهمشة في العالم. ولا أريد هنا أن أقطع بقول أنا غير متأكد منه إحصائيا. ولكنني، من واقع قراءاتي الشخصية، أرى أن القصة التيشخوفية التي انحزنا لها هي الاستثناء فيما كتبه العالم. وتأملوا قصص إدجار آلن بو منذ فجر تاريخ القصة، أو موباسان وأشهر قصصه “العقد” تأتي في بضعة آلاف كلمة، وملفيل الذي تصل قصته القصيرة “بارتلبي النساخ” إلى نحو خمسة عشر ألف كلمة في أصلها الإنجليزي، وإلى كتاب ذي حجم معقول في الترجمة العربية الجميلة التي نهضت بها الكاتبة “زوينة آل تويه” وحان أخيرا أن نشكرها عليها، تأملوا همنجواي في قصصه، و”ريموند كارفر” و”جون أبدايك” الأمريكيين أيضا، وغيرهم الكثير للغاية أنى نظرنا، تأملوا كل هذه القصص تروا أن القصة القصيرة السائدة في العالم هي المهمشة لدينا، بل وربما “المعيبة” في رأي “النقاد”.
تعرف القواميس القصة القصيرة بأنها ـ وإنني أعتمد هنا على بريتانيكا لا على أي قاموس أكثر تخصصا ـ عمل سردي نثري وجيز أقصر من رواية ويتناول في الغالب عددا قليلا من الشخصيات، وغالبا ما تنشغل بتأثير واحد تنقله من خلال واحد أو قليل من المشاهد. وهي تشجع على الاقتصاد في وصف المكان والزمان، وتكثيف السرد، واستبعاد الحبكات المعقدة.
كل ذلك عظيم ومفهوم ومن حق كل كاتب قصة أن يتحدى نفسه في مباراة الكثافة، ومهارة الحذف والكتابة بالممحاة لا بالقلم، على أن يعرف في نهاية المطاف أنه يكتب “قصة”، يكتب شيئا يرتبط في الأذهان بالحدوتة، بالحكاية، بمتعة الاستلقاء في سرير والإنصات إلى صوت ينقله إلى غير هذا العالم.
لقد قلت على سبيل المزاح في يوم فوز مونرو بالجائزة إنه مع كل قصة قصيرة تترجم لها إلى العربية سنجد من يقول “ها هي الست تكتب روايات! لماذا إذن يقولون إنها لم تكتب إلا قصار القصص؟”. ولا أحسبني غاليت في المزاح ومن بين قصص مونرو المتاحة على الإنترنت ما يتجاوز عدد الواحدة منها الثلاثة عشر ألف كلمة، وهو رقم إن لم يتجاوز حجم بعض “الروايات” العربية، فهو يقترب منه كثيرا، لا سيما روايات السنوات الأخيرة.
لقد ارتاحت الذائقة العربية إلى لون من القصة القصيرة كتبه ـ وإن لم يقصر كتابته عليه ـ الروسي “أنطون تشيخوف” وسوَّده “يوسف إدريس” في كثير من كتبه، واتبعته فيه أغلبية كتاب القصة القصيرة العرب. باتت القصة القصيرة العربية هي ذلك العمل السردي الذي لا يتجاوز مئات الكلمات، ويعنى أكثر ما يعنى بمشهد واحد. باتت “موت موظف” بصفحاتها الأربع تقريبا في ترجمة د. أبو بكر يوسف هي نموذجنا السائد، وليس “السيدة والكلب” ـ لتشيخوف أيضا ـ التي تتجاوز في بعض ترجماتها إلى الإنجليزية الستة آلاف كلمة.
والحق أنه لا غضاضة في أن تختار ثقافة، أو حتى تميل بلا سبب واضح، إلى شكل معين من أشكال الكتابة تؤثره على غيره. لكن المشكلة أن يتم التكريس لهذا اللون بوصفه “القصة القصيرة”، برغم أن آخرين حتى في ثقافتنا نفسها كتبوا قصصا طويلة، أتاحت لهم الحديث عن تواريخ شخصياتهم، وتأمل مصائرهم، وتقديم حكاية أقدر على البقاء مع القارئ، ولكن تم تهميش هذه الكتابة بأحكام قاطعة من قبيل أن: نجيب محفوظ ليس كاتب قصة قصيرة، اقرأوا له رواياته، أما القصص القصيرة فلا، لماذا أصلا وهناك يوسف إدريس؟
إنها كراهية التعدد، ربما. أو هو الاستسهال، والركون إلى النمط إن وجد، فإن لم يوجد، فالتنميط هو الحل.
ولكن هذه القصة القصيرة التي اخترناها توشك أن تكون هي المهمشة في العالم. ولا أريد هنا أن أقطع بقول أنا غير متأكد منه إحصائيا. ولكنني، من واقع قراءاتي الشخصية، أرى أن القصة التيشخوفية التي انحزنا لها هي الاستثناء فيما كتبه العالم. وتأملوا قصص إدجار آلن بو منذ فجر تاريخ القصة، أو موباسان وأشهر قصصه “العقد” تأتي في بضعة آلاف كلمة، وملفيل الذي تصل قصته القصيرة “بارتلبي النساخ” إلى نحو خمسة عشر ألف كلمة في أصلها الإنجليزي، وإلى كتاب ذي حجم معقول في الترجمة العربية الجميلة التي نهضت بها الكاتبة “زوينة آل تويه” وحان أخيرا أن نشكرها عليها، تأملوا همنجواي في قصصه، و”ريموند كارفر” و”جون أبدايك” الأمريكيين أيضا، وغيرهم الكثير للغاية أنى نظرنا، تأملوا كل هذه القصص تروا أن القصة القصيرة السائدة في العالم هي المهمشة لدينا، بل وربما “المعيبة” في رأي “النقاد”.
تعرف القواميس القصة القصيرة بأنها ـ وإنني أعتمد هنا على بريتانيكا لا على أي قاموس أكثر تخصصا ـ عمل سردي نثري وجيز أقصر من رواية ويتناول في الغالب عددا قليلا من الشخصيات، وغالبا ما تنشغل بتأثير واحد تنقله من خلال واحد أو قليل من المشاهد. وهي تشجع على الاقتصاد في وصف المكان والزمان، وتكثيف السرد، واستبعاد الحبكات المعقدة.
كل ذلك عظيم ومفهوم ومن حق كل كاتب قصة أن يتحدى نفسه في مباراة الكثافة، ومهارة الحذف والكتابة بالممحاة لا بالقلم، على أن يعرف في نهاية المطاف أنه يكتب “قصة”، يكتب شيئا يرتبط في الأذهان بالحدوتة، بالحكاية، بمتعة الاستلقاء في سرير والإنصات إلى صوت ينقله إلى غير هذا العالم.
لا يوجد تعليقات
أضف تعليق